تفاوت رتب الصحيح( وَتَتَفاوَتُ رَتَبُهُ ) أي رتب الصحيح ، ( بِـ ) سبب ( تَفاوُتِ هَذِهِ الأَوْصَافِ ) المقتضية للتصحيح في القوة ؛ فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض ، بحسب الأمور المقوية ، وإذا كان كذلك ، فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح ، كان أصح مما دونه .
فمن المرتبة العليا في ذلك ما أطلق عليه بعض الأئمة أنه أصح الأسانيد . كالزهري ، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر ، عن أبيه . وكمحمد بن سيرين ، عن عبيدة بن عمرو ، عن عليّ . وكإبراهيم النخعي ، عن علقمة . عن ابن مسعود .
ودونها في الرتبة ، كرواية بُرَيْد بن عبد اللّه بن أبي بردة ، عن جده ، عن أبيه أبي موسى . وكحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس . ودونها في الرتبة ، كسهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عن أبي هريرة .
وكالعلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط ، إلا أن في المرتبة الأولى من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم على التي تليها . وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة ، وهي مقدمة على رواية من يعد ما يتفرد به حسنا . كمحمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر ، عن جابر . وعمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده .
وقس على هذه المراتب ما يشبهها في الصفات المرجحة ، والمرتبة الأولى هي التي أطلق عليها بعض الأئمة أنها أصح الأسانيد . والمعتمد عدم الإطلاق لترجمة معينة منها . نعم يستفاد من مجموع ما أطلق الأئمة عليه ذلك أرجحيته على ما لم يطلقوه .
ويلتحق بهذا التفاضل ما اتفق الشيخان على تخريجه بالنسبة إلى ما انفرد به أحدهما ، وما انفرد به البخاري بالنسبة إلى ما انفرد به مسلم ؛ لاتفاق العلماء بعدهما على تلقي كتابيهما بالقبول ، واختلاف بعضهم في أيهما أرجح ، فما اتفقا عليه أرجح من هذه الحيثية مما لم يتفقا عليه .
وقد صرح الجمهور بتقديم صحيح البخاري في الصحة ، ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه . وأما ما نقل عن أبي عليّ النيسابوري أنه قال : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم . فلم يصرح بكونه أصح من صحيح البخاري ؛ لأنه إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم ؛ إذ المنفي إنما هو ما تقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة في كتاب شارك كتاب مسلم في الصحة ، يمتاز بتلك الزيادة عليه ، ولم ينف المساواة ، وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري ، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق ، وجودة الوضع ، والترتيب ، ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية ، ولو أفصحوا به لرده عليهم شاهد الوجود ، فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم وأشد .
وشرطه فيها أقوى وأسد ، وأما رجحانه من حيث الاتصال ، فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ، ولو مرة ، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة ، وألزم البخاري بأنه يحتاج أن لا يقبل العنعنة أصلاً ، وما ألزمه به ليس بلازم ؛ لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرة ، لا يجري في روايته احتمال أن لا يكون قد سمع منه ؛ لأنه يلزم من جريانه ، أن يكون مدلساً ، والمسألة مفروضة في غير المدلس .
وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط ؛ فلأن الرجال الذين تَكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عدداً من الرجال الذين تَكلم فيهم من رجال البخاري ، مع أن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم ، بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم ، بخلاف
مسلم في الأمرين .
وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال ؛ فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم . هذا مع اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم ، وأعرف منه بصناعة الحديث ، وأن مسلما تلميذه وخريجه ، ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره ، حتى قال الدارقطني : لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء .
( وَمِنْ ثَمَّ ) أي ومن هذه الحيثية ، وهي أرجحية شرط البخاري على غيره ( قُدِّمَ صَحيحُ البُخَارِيِّ ) على غيره من الكتب المصنفة في الحديث ( ثُمَّ صَحيحُ مُسْلِمٍ ) لمشاركته للبخاري في اتفاق العلماء على تلقي كتابه بالقبول أيضاً ، سوى ما عُلل .
( ثُمَّ ) يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ( مَا وَافَقَ شَرْطُهُمَا ) ؛ لأن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح ، ورواتهما قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم ، فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم ، وهذا أصل لا يُخرج عنه إلا بدليل .
فإن كان الخبر على شرطهما معا ، كان دون ما أخرجه مسلم ، أو مثله ، وإن كان على شرط أحدهما فيقدم شرط البخاري وحده على شرط مسلم وحده ، تبعاً لأصل كل منهما ، فخرج لنا من هذا ستة أقسام تتفاوت درجاتها في الصحة ، وثَمّ قسم سابع ، وهو ما ليس على شرطهما اجتماعاً وانفراداً .
وهذا التفاوت إنما هو بالنظر إلى الحيثية المذكورة ، أما لو رَجَح قسم على ما فوقه بأمور أخرى تقتضي الترجيح على ما فوقه ، فإنه يقدم على ما فوقه ، إذ قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً ، كما لو كان الحديث عند مسلم مثلاً ، وهو مشهور قاصر عن درجة التواتر ، لكن حفته قرينة ، صار بها يفيد العلم .
فإنه يقدم على الحديث الذي يخرجه البخاري إذا كان فرداً مطلقاً ، وكما لو كان الحديث الذي لم يخرجاه من ترجمة وصفت بكونها أصح الأسانيد ، كمالك عن نافع عن ابن عمر ، فإنه يقدم على ما انفرد به أحدهما ، مثلاً . لا سيما إن كان في إسناده من فيه مقال .
شرْحُ نخبة الفكر في مُصْطلح أهْل الأثر
أبو الفضل أحمد بن عليّ العسقلاني الشهير بابن حجر
السبت يونيو 11, 2011 12:29 pm من طرف samar